الخميس، أغسطس 14، 2014

سلسلة اللحن الآلهي - الجزء الثالث






  اللحن الإلهي -١١

في الواقع اللذة هي لمحة عن سعادتك، هي صفحة من رواية تروي روايتك. اللذة شرفة تنظر منها إلى حديقة روحك، فإلى متى ستنظر؟ اللذة تعتمد على وجود الآخر لكنها ليست منه، هو مرآتك ليكشف لك جمالك وبهاءك فإلى متى ستتعلق بالدنيا ومن فيها وتنسى جنتك وما فيها؟
ماذا تعني حياة السعداء؟ ما هو الموت السعيد وما هي منزلة السعداء؟
هي حالة من الشهادة عاشها الذاكر. شهادة على ما يدور في قلبه وما يجول في فكره وما يلامس نيته... هو حال شهادة على الوسواس الخناس ... شهادة تصنع مسافة والتأمل سَند الشهادة ... التأمل يُحيي الرقيب والشهيد فتَحيا الشهادة. حالة يحيا فيها العابد المتأمل يقينًا لا يمازجه شك وعلمًا لا يخالطه جهل ولا يجامعه تردد.
الآن تشعر ما هي السعادة؟ لا أقول تعرف لأن السعادة اختبار لا معرفة... إختبار في غار القلب وفي عزلة تنير شمعتها بنور وحَدتك. هذه هي السعادة الدائمة، هذا هو النعيم المقيم.
ما الصعب في أن ندخل كهف القلب ونبدأ رحلة الحج؟ لماذا نزرع بذور الألم وننتظر حصاد ثمار السعادة؟ مصدر السعادة هو أنت فازرع الأنا في تربة قلبك وانتظر موتها لتنمو روحك وتُزهر. وحين تُزِهر ستذوق حلاوة ما بعدها حلاوة وتنجلي عن قلبك الغشاوة وتمحي بينك وبين البشر أي عداوة.



  اللحن الإلهي -١٢

الطريق
تسألني عن الطريق يا صديق الطريق....
إمنح نفسك وقتاً تدخل فيه كهف قلبك، وشاهد أفكارك ... سترحل الفكرة دون أن تأتي أخرى وبعد انتهاء الأولى وقبل ابتداء الثانية، فناء. في هذا الفناء ستدخل الأبدية، ستحيا بلا وقت ولا مكان ولا حيٍن ولا زمان. في هذا الفناء عُِدمت الآجال والأوقات و ازلت السنون والساعات ولاشيء إلا الله الواحد أنت به وفيه ومنه واليه. أنت الآن في حال السعادة وليس اللذة. أنت الآن خارج اللذة والألم والحب والكره، أنت مع واحد أحد كتب على نفسه الرحمة. الآن أنت وعي خالص، لن ُيعديك سقيم النفس بدائِِه ولن يستفزك حاكم بندائِِه، فمن سُيعدى ومن سُيستَفز؟
في هذه الحالة ستبصر عالمًا أكبر حواه جسدًا أصغر. ستُبصر ذاتك معبدًا حوى الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف والقوي والضعيف... هل ترى كرم الله؟ هل شكرته على ما آتاك؟ الآن سيشكره قلبك الصادق حين تبصر ذاتك معبدًا للسماء والهواء والرياح والماء، طاقة الشمس والقمر، الأنثى والذكر، النبات والحجر...
في هذه الحالة أنت من أهل الذكر الأوفياء، الذين إن حضروا لم ُيعَرفوا، وان غابوا لم ُيفتَقدوا... يجهلهم أهل الأرض، ويعرفهم أهل السماء، هؤلاء هم أهل السلامة وأصحاب الكرامة.


  اللحن الإلهي -١٣

المسؤولية
أخي... هل لي أن أسألك علامَ تنظر؟ ألا تعلم أن السمع والبصر والفؤاد وكل حاسة من الحواس أنت عنها مسؤوًلا؟ وما هي المسؤولية؟
مسؤوليتي أن أطهر بيتي ومعبدي... أن أشاهد نفسي، حركاتي وانفعالاتي وأفكاري حتى يحيا الرقيب الشهيد فيها، لا أن أشاهد غيري وتغرني الدنيا وما فيها. مسؤوليتي أن أسمع أنغام نفسي وصمت الكون يغشاها، لا أن أسمع نميمة فلان وفلانة وأتبع قلوب تقلبت في جواها. مسؤوليتي أن أقرأ رسائل حكماء في حكمتها لا تتناهى وأتعلم حكمة الأنبياء في حياتهم وزهدهم ومماتهم وأغتني من غناها، لا نقمة حكام وملوك سكنوا قصوراً طواهم الموت وطواها.
هل أُخبِرك بحكاية الجوهرة الزرقاء؟ إنها حقيقة في غاية الجمال وليست كذبة ينام عليها الأطفال.
كان في الزمان وفي هذا الأوان وكل آن ذاكر علِم أن التأمل هو لله دليله، فاهتدى إليه وعرف سبيله وبدأ يشاهد أفكاره وحاله وأحواله في كل حال من الأحوال.
شهادته على فكره أفرغت فناءه من الأفكار، وشهادته على شعوره أفرغت فناءه من الشعور... وَجد الذاكر نفسه في فناء طاهر، معبد مقدس في داخله لا يدخله أحد غيره... وسأل نفسه: ما بالي لم أَره طوال هذه السنين وهو داخلي أقرب إلي من حبل الوريد، يبعث في الذكرى والحنين؟
من لا مكان أتاه الجواب اليقين بأن دخول هذا المعبد المقدس، هذه المساحة المقدسة لا يكون إلا بعد أن تخلع نعالك، إلا بعد أن تخلع أفكارك وأحلامك ورغباتك، حين ترمي ذكريات العباد وتصبح ذاكراً عابدًا لله وحده ولا شيء معه... وقد حدث وها هو يرى نوراً أزرق. يقول الحكماء أنه نور النْفس الشفافة، نورك أنت ويسمونه الجوهرة الزرقاء...
وحين رآه علم أنه شارف على الوصول وأنه عائد إلى الأصول. وأنا وأنت لَم نبحث عن أصولنا في المجتمعات والمجمعات والمولات؟
سأتركك الآن وأرحل... مهلا... إني أرى الحزن باٍد عليك... أهَو هوس جديد عبرت عنه عينيك؟ ِمن هوس بالدنيا والرغبة إلى هوس بما قلتُه وكيف تصل إلى اللارغبة؟
لا تخرج من علبة وتدخل في علبة... لا ترمي حجراً وتحمل غيره... إستسلم وشاهد ولا تجعل كلامي مَشاهد تنظر إليها وتظن أنها مرام بعيد... فكلامي ليس بجديد... أنا أخبِرك عن حالتك وحقيقتك الجديدة العتيقة... وما عليك إلا أن تخلع نعالك لتكون من زوارها وتنُبت أزهارك بجانب أزهارها.
آه... أنت حزين لأني ارحل؟ ولكننا رحالة وجميعنا سنرحل... أنا وأنت الآن في رحلة... دخلناها وحدنا ونغادرها وحدنا... في الواقع لسنا وحدنا فالله معنا.. ومن كان الله معه فَيالسعادته.
أهل الطريق لا يخشْون الرحيل فهُم ليسوا ملوكًا ولا حكام يخافون على أموالهم ومناصبهم وشخصياتهم ظنًا منهم أن الموت لن يأتيهم وهم في أبراجهم يختبؤون... أهل الطريق يا أخي يعلمون أن هذه الدنيا خاوية وأن أيديهم ستخرج منها كما دخَلتها خالية.
إجعلنا يارب من أهل الطريق ولا تجعلنا كمن زرعوا في الأرض ضلالاً وعاشوا حياتهم ُجهالاً... لا تجعلنا كمن ألهاهُم التكاثر حتى زاروا المقابر. 


  اللحن الإلهي -١٤
الدين
ذات يوم زارني رجل حكيم وقال لي كلاماً غاية في العلم والتعليم. يومها سألته عن الذات ببراءة... قال لي حين تشفى من عاهات وآفات تجسَدت في شكل لذات ورغبات، حينها يسكن العقل ويهدأ، يسكن العقل ويبدأ برؤية ما لا يراه فكر، يرى الذات الأصغر من كل صغير والأكبر من كل كبير. حينها يرى للمرة الأولى... يرى الوجود واسعًا والفرح ناميًا ويسمع الجواب وافيًا ويفهم أن نصيبه من هذه الدنيا كافيًا، وقبل ذلك فإيمان هذا الإنسان ليس إلا حُلمًا واهيًا.
سألته عن الأمة وحالها، تصوم وتصلي وتِعظ دون أن تتِعظ ورغم هذا لم ينصلح حالها، فما بالها؟
أجابني بأن الدين حقيقة قبل أن يكون شريعة وطريقة. الدين حالة يعي فيها الإنسان أنه وكل موجود امتداد لذات إلهية، وأن الشريعة باب وطريق وخَلق الخالق طرقًا بعَدد ما خَلق من خلْق... الشريعة والطريقة مفتاح لتفتح بابك وترى نور ذاتك وتفقه أسرار حياتك لكنها ليست الحقيقة...
أجابني بأن حال الأمة كمن يحمل مفتاح لا يعلم أي باب يفتح، نسي الباب وما وراءه وتعلق بالمفتاح فأغشى قلبه الهوس وأصابه. الأمة ظنت المفتاح حقيقة ونسيت أنه طريقة. الأمة طال مسيرها على الطريق وضلت البيت العتيق الذي منه أتت واليه تعود وهي الآن تحيا في ضيق.... أن تصوم وتصلي دون وعي ودراية وفقه بأسرار الصيام ومعنى الصلاة والصِّلة والعبادة وحال الشهادة، لا يعني أنك متدين أو أنك تعبد الله... لا يعني أنك عرفت الله وكيف لك أن تعرفه وأنت لا تعرف من أنت حتى؟ هل تذكر الرجل الذي صلى أمام الرسول الحبيب فأمره بأن يعيد صلاته لأنه لم يصلي؟ أعادها فأمره بأن يعيدها من جديد لأنه لم يصلي... ظل يُعيدها حتى حلت في نفسه السكينة فتجلت في وصل تام مع الله وما هو هذا الوصل؟ هو الوقوف بين يدي الله بعقل خاٍل من أي فكر أو شهوة أو رغبة أو طمع، لا جنة ولا نار ولا علن ولا إسرار ولا دنيا ولا ذاكرة ولا ليل ولا نهار...
في هذه الحالة أنت بالله موصول، أنت بذاتك الحقيقية موصول، أنت في توجه وتسبيح. هذا الحال هو صلاة حقيقية خالصة لوجه الله، صلاة فطرية تصلك بالله..
الأمة فقدت هذا الحال، انفصلت عن الله داخلها وجعلته في مكاٍن ما خارجها. الأمة فقدت وصلها وخاب حالها ونسيت أصلها لأن أطماع آخرتها وهموم دنياها تشغل بالها. عقولها فقدت عذريتها وما هي العذرية؟
هي غير فهمنا الجاهل للعذرية... هي حال من صفاء الإنسان صفاءً لا يكدره وهْم أو هم دنيوي ومادي... عذريتك هي أن تدخل محرابك وتُغلق بابك ولا تسمح لما هو دون الله باحتلالك. الأمة لا ترى الله موجودًا في الأشجار والغابات والأنهار... الأمة تذهب إلى المساجد والكنائس والمعابد لأنها تظن أنها بيت الله الوحيد، ومن قال هذا؟ الكون هو معبد الله الأكبر، ومن لم يجد الله في قلبه فلن يجده في أي معبد. ِجد الله في قلبك وستجده في المسجد والكنيسة والمعبد وفي كل مكان.


اللحن الإلهي -١٥

أن تنحني النّفس وتحني الجبين، وروح في محراب الحب خاشعة خشوع الزاهدين... حب الكون وما حواه من َخلق وكائنات وعاَلمين، هذا هو الدين... الإنسان المتدين هو من استسلم للحياة والمنافق هو من حارب ويحارب انسياب نهر الطبيعة في أودية الحياة. المتدين في خدمة الحياة والمنافق في خدمة الموت. المتدين يرى الخير ظاهراً وباطنًا في كل مكان حتى ولو ظهر للعين أن غيوم الشر لبدت سماء الحياة ورحل الخير، فهو يعلم أنه مجرد سوء فهم لا غير... لا بد أنه جهلنا ا لذي يرى، جهلنا الذي يشرح ويفسر الأمور دون أن يرى ، فيبوح بحُكمه ويقول ها هو الشر في الحياة. لا بد أنه عقلنا الذي لم ولن يسمع قصة الكون الأبدية كاملة متكاملة، لا يرى الصورة من جميع الزوايا... لا بد أنه جهلنا لم يسمع اللحن من بدايته إلى نهايته فظن أنه فَقَد نوتة من نوتاته السبعة ولم يكتمل.
المتدين يعلم أن الخير في كل مكان وكل نفْس، يتنفس مع كل خفقة قلب، كيف لا والله هو الخالق أوجد الحياة ومن فيها؟ الله هو يقيننا لنثِق بوجود الخير ولا شيء سوى الخير، فالشر لا كيان له ولا وجود مستقل وان ظهر فلا بد أن هذا المشهد
الذي نراه ليس سوى كابوسًا تحياه عقولنا، كابوسًا كسَبته أيدينا.
المتدين يسمع همس الوجود ونداءه فيلبي النداء ويجيب بنعم. نعم للمشيئة الإلهية. نعم يعْنيها من لب قلبه، نعم بحب وترحيب أنه سيلبي النداء فمن سيقف في وجه انسياب نهر الحياة ويقول للنهر لا؟ المتدين ينحني مرحبًا بما أتاه، ولا يعتبر نفسه موجودًا، لا يرى وجوده كيانًا مستقلاً له احترامه ومكانته... لا… المتدين خاشع والخشوع يعني تسليم الأنا وكيانها واحترامها ومكانتها في المجتمع، تسليم الأنا قربانًا لتكون مشيئة الله، لتخشع النفس وتستسلم وأمرها لله تُسَلم. صاحب الأنا يحارب المشيئة فيغَفل ولا يشكر محاوًلا إثبات نفسه أحدًا مميزاً. صاحب الأنا مصيره الفشل والحسرة والندم، مصيره خيبة الأمل عاجلاً أم آجلاً.
حين يدخل الإنسان محراب القلب الصافي الخالي من كل شيء وينظر إلى الحياة من هذا المقام سيرى القداسة في كل مكان فالكون هو معبد الله...