السبت، سبتمبر 20، 2014

اللحن الالهي - الجزء السادس



 اللحن الإلهي-٢٦

المؤمن والمنافق
ما بال الناس تسعى لتطهير ثيابها دون أن تطهر ذاتها؟
رياح الدين تهب من الداخل إلى الخارج ولم يحدث في تاريخ الوجود أن هبت رياح الدين من الخارج إلى الداخل. الدين يولد في رحم الفرد ثم يبصر النور بين الجماعة. الدين ليس معرفة تتناقلها الأجيال وتُعلمك إياها الجماعة، هذه المعرفة سطحية لا تلامس الروح ولا تحول ولا تُطهر إنسان. لكن هذا ما حَدث.
يولد الطفل في عائلة مسلمة أو مسيحية أو بوذية... يولد الطفل وسرعان ما تهب رياح عقول أفراد العائلة وتعصف بقلب الطفل الصغير. سرعان مايأتوه بثيابهم وثياب أجدادهم فُيخبروه بأنه مسلم وهو لا يعلم عن الرسول شيئًا، بأنه مسيحي وهو لا يعلم عن المسيح شيئًا، بأنه بوذي وهو لا يعلم عن بوذا شيئًا... يجلبون الماء من آبارهم ويقدموه للطفل في كؤوسهم وهو لم يشعر بالعطش بعد... في الواقع هو لم يدخل الحياة بعد وأنت تُخبره بأنه سني أو شيعي وتُجبِره على الذهاب للمسجد أو الكنيسة... وتمضي الأيام ويتكرر كل يوم ذات الكلام فيستسلم العقل لأن الإفلات من الأمر ُمحال وتهب رياح الدين المزيفة من الخارج إلى الداخل...
هذه الرياح لا تكون حقيقية إلا إذا هبت من الداخل إلى الخارج... تمضي الأيام ويرتدي الطفل ثوبه المستعار، يرتديه ويتمسك به ويأبى أن يخلعه طوال عمره.
يرتديه ويصبح مسيحيًا أو مسلمًا دون أن يكون قد وقع وارتفع حقًا في حب الرسول أو المسيح. يرتدي ثوبه المستعار ويولد النفاق، ومع النفاق هلاك، مع النفاق نعاني مما نراه اليوم من تعصب وحرب ودمار تحت كل ثوب وخلف كل شعار... لماذا لم ننتظر؟ لماذا لم نترك الطفل حتى يشعر برغبة البحث عن الدين وحده؟ لماذا لم ننتظر حتى يشعر بالعطش فُنرشده إلى النهر لا ُنجبره أن يشرب منه وهو لا يعرف عن العطش والماء شيئًا؟
قد يقف الإنسان على ضفة نهر دون أن يشعر بالعطش فلا يرى الماء صافية جارية ولا يعلم أنه بجانب النهر... وحَده العطش يِهب الإنسان عينًا ترى الماء، وحده الحنين يهِب الإنسان قلبًا يرى النور.
هذا ما حدث... شِربنا دون أن ُيميتنا العطش فلم يحيينا الماء. جميعنا أصبحنا ُسنة وشيعة ومارونيين وكاثوليك وبوذيين ويهوديين وهندوسيين، جميعنا نظن أنفسنا متدينين لكننا جميعًا مزيفين.
التدين الحق يبدأ من داخل القلب وأبعد من الكيان لا من تصرفات الإنسان. المؤمن لا ُيحاول تحسين صورته وعملِه لينال رضى واحترام غيره، المؤمن يبحث عن النور الذي ُينير به شمعة وعيه، كيف ُيصبح أكثر وعيًا، أكثر فهمًا ومسؤولية وشهادة على فكره وسمعه وبصره واحساسه. الصورة والتصرفات هي ِعماد الشخصية الدينية المزيفة، والوعي والشهادة الداخلية هما ِقوام الفردية الدينية الحقيقية. المجتمع يهتم بالشخصية، لكن الرسول والمسيح وبوذا وكل حكيم ونبي ومستنير يهتم بالفردية. الشخصية صورة خارجية بينما الفردية حقيقة داخلية وليست تمثيلية.
راقب شرائعنا وما تحويه من كلام. خاطب الناس على قدر عقولها... لماذا على قدر عقولها؟ ما معنى هذه العبارة الجميلة ذات المعاني الثقيلة؟ عبارة مهمة تعني أن ما اختبره النبي والحكيم والمستنير هو سر مقدس لا يُفتَح بابه للعامة، لعشاق اللهو وعَبَدة الملذات والأصنام. لذا يخاطبهم على قدر عقولهم بما يفهموه ويستوعبوه من كلام. ُهم يريدون أن يستمروا في عْيش الأحلام. وهذا لا يعني أن الحقيقة لم تعِّرف
عن نفسها... 
والآن مرة أخرى، راقب عَبدة المال والأصنام وما يهمهم ويعنيهم من الشرائع ولماذا يعبدون الله أصلا... راقب رياح الدين التي هبت من الخارج إلى الداخل فأصبَحت نفوسهم مزيفة مريضة وشرائعهم تعكس مكبوتاتهم ورغباتهم المريضة. ُهم يعبدون الله ويؤدون الفروض والشعائر لأجل الجنة، لأجل نساء لا يكْبرْن في العمر. فالجنس
عقدتهم وغايتهم وحكايتهم وغاية ما تريده هذه الأمة وتفهمه. راقب كيف حِّرفت وتحولت ومالت شرائعهم وشاهد أسباب تدينهم وستعلم أن لا علاقة لهم بالدين والتدين. ستعلم أن تدينهم المزيف ليس سوى مرآة يملأها الغبار... مرآة تعكس آمالهم وأحلامهم وكبتهم الجنسي. ستعلم أن تدينهم بعيد كل البعد عن تدين الرسول وآل بيته والمسيح وكل حكيم ارتفع عن مقام حب الدنيا والهوس بالجنس فارتقى روحًا تحررت من قيود الدنيا والجسد والمادة. وحده من ارتقى يبوح له الكون بأسراره المقدسة، ومن لم يرتقِ يحيا الوهم والحلم والله أعلم متى يكون موعد اليقظة.



 اللحن الإلهي-٢٧

والسر في التوحيد... شهادة التوحيد التي تُنَقل من قلبٍ إلى قلب جيلا بعد جيل. شهادة هي سر وجود الإنسان على هذه الأرض ليشهَد ويتذكر ويذكر. ولكن هل صحيح أن أهداف الإنسان جميعها تُخفي ورائها بحثًا عن الوحدة والتوحيد؟ وحَده الإنسان غَفل ولم يعد ببصيرته يرى لذا ضاع بين أهدافه وأهلكَته غاياته؟ نعم.. وسأشرح لك يا صديقي...
ما هي ولادة الطفل؟ هي روح أتَت من البرزخ لتسكن رحمًا يكون سبيلها وجسرها حتى تختبر وتعتَبِر وتتعلم درسًا تحتاجه لنموها وسموها على ممر رحلتها الكونية وصولًا إلى المنتهى والمقر. يولد الطفل ولادة جسدية مادية وهي الولادة الأولى... ولادة مادية تتواصل المادة عبرها مع المادة... المادة تُحاكي المادة... ذبذبات نورانية كثيفة تجسدت على شكل مادة في جسد الطفل بحاجة لذبذبات نورانية تجسدت على شكل مادة وتعارفنا عليها فسميناها بالطعام. جسد الطفل بحاجة للطعام، والطعام هو المفتاح الأول الذي يفتح للطفل باب التواصل مع الوجود، وجوده المحدود.
إنه العشق الأول في حياة الطفل... في ولادته الجسدية... الطعام. حين يلتقي العاشق بالمعشوق فيتعانقان ويتوحدان، تكون النشوة للقائهما عنوان. وحين تلاقي المادة أختها المادة، حين يلاقي الطعام جسد الطفل... حين يستقبل جسده الطعام فيسُكُنه ويتوحد معه ترى النشوة والشعور بالإكتفاء تلاحق هذا التوُّحد كظِله... نشوة مادية توازي مقام الطفل وحالته الدنيوية. المادة تلتقي بالمادة، الطعام أو الشراب يتوحد مع الجسد، الخارج يلتقي الداخل... لقاء سطحي هو، لقاء حيواني غرائزي هو ونشوته محدودة لكنها بداية الأنشودة... أنشودة اللحن الإلهي المنتظر... لكنها بداية لدرب طويل وولادة جديدة ورحلة حج بعيدة عن عالم المادة الواهم المزيف وصولًا للولادة الثانية، من الولادة المادية إلى الولادة الروحية ونشوة الروح حين يلاقي العابد ربه فيختفي ويتلاشى خاشعًا في حضرته.
البداية تتحول إلى عقبة فيضل الإنسان طريقه وسبيل خلاصه إذا ارتضى بحياة تكون فيها غريزته سيدته وحاكمته... إذا ارتضى الإنسان أن يحيا على مقام الطعام فَوَجد فيه غاية لذته وقمة نشوته وظن أنها سعادته. لكن كثير من البشر في يومنا هذا يعيشون لأجل أن يأكلون.. يأكلون الطعام والمال الحرام وحقوق غيرهم. كثير من البشر تدخل المادة أجسادهم فيهنأون بها ثم تغادرهم بعد أن تخرج من أجسادهم وتعود إلى الطبيعة مصدرها ومستقرها.
هذه دائرة المادة المفرغة، دائرة الولادة والموت ودائرة المتاع واللهو التي ألهَت البشر وحجَبت الرؤيا عن بصائرهم فأغفلوا مصائرهم. أنت تأكل المادة ثم تفرغها... تستقبلها ثم تودعها... دائرة مفرغة طاف معها البشر وطافت الدنيا معها ولانزال نطوف مع الباطل ونسينا ما هو الطواف الذي يصلنا بالنور والبيت المعمور في سابع سماء، وهل من طوفان جديد ودمار شامل أكيد لأجل أن نصحى ونحيا الذكرى ونتذكر؟
الطفل بحاجة للطعام حتى يستمر في البقاء لكن ما غاية البقاء إن كان لأجل الطعام... لم يعد بقاء بل بلاء وانتظار للموت. متعة الطفل وهو يأكل وهو يستقبل الطعام داخل جسده ويرحب به هي بداية رحلة بحثِه عن التوحد. من الأصغر إلى الأكبر...
البداية مع الطعام والنهاية مع الله... النهاية على منابر من نور مع رفاق الطريق الذين جاهدوا بأنفسهم في سبيل الله وجهاد النْفس أكبر الجهاد حتى وصلوا إلى دار الحق زاهدين خاشعين.
علماء الفيزياء اليوم يتأملون ويتفكرون في سر تقارب الذرات من بعضها... ما السر وما السبب؟ ما سر اجتماع الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات جنبًا إلى جنب؟ لماذا نسى الإنسان معنى الجماعة ولازال الوجود وما فيه حتى الذرات التي تحوي أسراره وخوافيه، يذكر الذكرى ويحيا معنى الجماعة... وما الجماعة؟ هي تقارب وتآلف وتوحيد بين الأرواح... واعتصموا بحبل الله... جميعنا في الله أخوة موَّحدين بحْبل الله... حبل هو نور من نور لا تراه الأبصار ولكن يدركه الإحساس والشعور... تقارب وتآلف بين الأرواح يصل القلوب ببعضها ومن القلوب ترتفع طاقاتنا عبر مقاماتنا وتتوحد مع الفتاح لُنحلق على جناح من نور.
هذا الحبل الذي يجمع الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات هو حبل الله... هو سر روحي عاشه الموحدون والعارفون بالله. بإمكان الِعلم أن يسميه بقانون الجاذبية أو المغنطيسية أو الحقل الكهربائي، أو أي كلمة يشاء لكن الجماعة أجمل من كل الكلمات.. الجماعة معنى وأسلوب حياة يتعدى الكلمات واللغات.
ما هو علم الصيام؟
الطعام مادة يجذب مادة الجسد إليه... ومن عاش حياته تجذبه المادة وتُغوي عينيه فتتجه نحوها قدميه، فقد ضاعت حياته وهدية الله إليه لأجل لحظات من المتعة الدنيوية الدنية التي لا تدوم. ولأننا جميعًا هنا رحالة على درب الحق ولأجل أن نكون سوياً على الدرب أهدانا الحكماء والأنبياء علم الصيام.
  


اللحن الإلهي-٢٨

الصيام بداية لنخترق أجساد أبعد من جسد الطعام، وتنكشف لنا عوالم لسنا بحاجة فيها إلى طعام ولا إلى كلام، بل سلام من ربٍّ رحيم.
الصيام لا يعني تجويع الجسد، لا يعني قتل الجسد ودماره بالفرض والإكراه والإجبار.
الصيام مساحة للجسد حتى يشعر براحة تؤهّله لما بعد عالم المادة والطعام... لثاني مقام كوني وثاني جسد وثاني سماء وآية إهدنا الصراط المستقيم... الفاتحة سبعة آيات فيها علوم وأسرار... لكل آية طاقة كونية تحاكي وتُحيي طاقة جسد من أجسادنا السبعة...
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين... مع الجسد المادي الأول احتمال الضلال لا زال كبير، فالوعي لا زال ضعيف وأين هو الضمير؟ ومع الصيام نحن ُنوِّجه طاقاتنا اتجاه ثاني أجسادنا، الجسد الأثيري. ومع الجسد الأثيري الأقل انجذابًا للمادة نبدأ رحلة جديدة... رحلة إهِدنا الصراط المستقيم. إنها بداية الوعي... سيستيقظ الوعي عما قريب ويبدأ رحلته على صراطه المستقيم ليعتدل ميزان الإنسان ويستقيم.
لا تغلِق يا أخي في وجه الصراط المستقيم بابك... لا تلتهي بالطعام والشراب والولائم والعزائم وتنسى أصلك ومآبك وبيتك في سابع سماء... في البيت المعمور مركز الوجود الموصول بالكعبة وبكل الأماكن المقدسة بذبذبات من نور. هذا ما حاول الأنبياء والحكماء إفهامنا إياه حين تحدثوا عن الصيام. ولا تتعلق بالصيام وتميل له كل الميل وتهجر الطعام... خير الأمور الوسط وأسوأ الأمور الهَوس.
يحيا الطفل مقامه الثاني بعد أن يبدأ جسده بالنمو... يصبح في صحة جيدة، سعيدًا تملأه الحيوية فتتجه طاقته الفطرية نحو الرغبة في السيطرة المادية. السيطرة على الأشياء.
  الرغبة في شيء أو هَوس السيطرة على أي شيء أو أحد، هي رغبة طفولية تشير
إلى عدم نضج الإنسان وبقاءه في مقام يحيا عليه الحيوان ولكن ماذا فعلت يا إنسان وماذا أفعل كل يوم؟ أتمسك بأشيائي وأغار عليها وعلى من أدعي أنهم أحبابي والغيرة عنوان نخفي وراءه تعصبنا ورغبتنا في امتلاك الأشياء وامتلاك َمن حولنا...
لا يزال جهل الطفل يحيا داخلنا وما أحوجنا لبراءة الأطفال لا لجهلِهم. حين قال عيسى-ع-: ما لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت الله، كان يعني البراءة. أن نستعيد براءة الأطفال. وحين تجتمع براءة الأطفال وتتوحد مع نضج الكبار تولد الحكمة. 
على مقامه الثاني يصبح الطفل سياسيًا. يبتسم إن وَجد خلف ابتسامته بابًا يصله بأهدافه ورغباته. يبكي إن وَجد اهتمام عائلته يزداد كلما بكى فيحققون له ما يرغب وما يتمنى وهكذا يتمكن من السيطرة على من حوله بابتسامته أو بدمعته. هذه الدمعة وهذه الإبتسامة، مرة أخرى هي جسر للتوحد... جسراً طفوليًا يوِّحد الحاِكم بالمحكوم.


اللحن الإلهي-٢٩

وبعد المقام الثاني تصل بنا رحلتنا إلى المقام الثالث أو مقام الجنس حيث المادة الذكرية تجذب المادة الأنثوية. الذبذبات المكثفة المتجسدة بالذكورة تجذب الذبذبات المكثفة المتجسدة بالأنوثة والعكس.  
إذا سألت العلماء عن الجنين في رحم أمه في أيامه الأولى، سيخبروك بأنه ليس ذكراً ولا أنثى في الشهور الأولى. رويدًا رويدًا تبدأ التفاصيل والإختلافات بالظهور ويتحدد جنس الجنين ذكراً أم أنثى. ولكن الخلية الأولى... النشأة الأولى، الخلية الأولى كانت ذكراً وأنثى لا قسمة ولا اختلاف بل ِوحدة وتوحيد.
ِمن الأجمل والأعمق لنتمكن من فهم أسرار الوجود أن نقول بأن الله خلق آدم/حواء وليس آدم وحواء. ذبذبات كونية موحدة انفصلت لاحقًا وبعد الفصل أشرنا إليها بصفة الذكر وصفة الأنثى. بعد التوُّحد فصل وبعد الفصل حنين إلى الأصل. حنين إلى التوحد من جديد... حنين يخلق بين الأنثى والذكر على الأرض إنجذاب شديد. هذا هو سر الإنجذاب، ذوبان جليد الفصل والتوحد بدفء الوصل، ومن الَوصل أتت كلمة الوصال.
لأجل الَوصل والعودة إلى الأصل يبحث الذكر عن الأنثى وتبحث الأنثى عن الذكر... نصف الوجود يبحث عن نصفه الآخر لتكتمل الدائرة في أحضان اللقاء.
وكما أخبرتك يا صديقي ِمن قْبل فالجنس هو الأعلى مقامًا بين المقامات الحيوانية الغرائزية البيولوجية، فمعه تبدأ المشاركة ومع المشاركة يسهَل على الدرب المسير لأنها ستشارك بالصداقة كل عطشان على درب الحق يسير.
الشعراء، العشاق والرسامون يحيون المقام الثالث، ومع هذا المقام تبدأ المشاركة وهُم يشاركون العالم بأعمالهم ومنحوتاتهم وأشعارهم ورسوماتهم. وانتبه! فمن يُحب يطلب لمحبوبه الحرية كما يطلبها لنفسه. لاتدع حُبّك يتراجع إلى ثاني مقام كما تفعل مجتمعاتنا ورجالنا ونسائنا أشباه الرجال والنساء... كلٌّ يحاول السيطرة على شريكه وأين أنت أيها الشريك؟
وَقعنا في الشِّرك وأصبحنا لبعضنا ولمصالحنا عبيد. لا وجود للحب مع السيطرة، فالحب والسيطرة لا يلتقيان. المشاركة المسؤولة هي الخطوة الأولى على درب الحب.
 ومع هذا فالمشاركة ليست كل شيء... على مقام الجنس لا زال الحب ليس بالمحبة التي تحدث عنها الرسول والحكماء...
على مقام الجنس لا زال الحب حيوانيًا غرائزياً وقَدَرنا أن نحيا حباً إنسانياً وبعده حباً وعشقاً إلهياً، فلا تركُن إلى الجنس فهو بداية الطريق والقمم العالية للمحبة لازالت في انتظارنا فلا تؤجل المسير وفي حفرة الجنس تعيش كما فعلت أمتنا فدَّمرت نفسها وتحاول أن تَدِّمرنا.
تولد النشوة في أحضان اللقاء الحميم بين الرجل والمرأة فينتشيان بها ويحتفلان، وما هذه النشوة وهذا الإحتفال سوى لمحات بعيدة عن معنى النشوة الإلهية، عن سر التوحد بالله والذوبان في حضرته... توحد الرجل والمرأة هو نشوة تمنحنا لمحة بسيطة وصغيرة لتعرفنا على ما سيحدث في حال التوحد الأكبر... الرجل جزء بسيط من الوجود وكذلك المرأة، واذا كان التوحد مع هذا الجزء الأصغر يمنح نشوة يعجز الكلام عن وصفها، فكيف هي إذًا حالة التوحد الأكبر؟ بالوجود كله؟
الجنس باب فقط وليس منزل لنسكن فيه... الجنس معَبر لنعُبر إلى المقر حيث النشوة الحقيقية الأبدية التي تدوم إلى الأبد مع الجامع الصمد.
ولكن َمن ِمنا فهم علم الجنس وأسراره؟ ِعشنا الكبت وأفكاره والآن نحيا الفلت والجنس الرخيص حتى بين الأزواج والزوجات والعشاق... مجرد علاقة ميكانيكية حيوانية نجهل أصولها وحكمتها الإلهية... ضلينا الطريق وأصبح الجنس هَوسنا وغايتنا من جميع علاقاتنا...
أصبح الجنس برواز ننظر منه إلى الحياة والأمور فيشكل ويَقولِب نظرتنا وها نحن نرتكب عظائم الأمور.

صاحب مقام الطعام بعيد عن هذه اللحظات، وصاحب مقام السيطرة والسياسة بعيد عن هذه اللحظات شريد في غابات العنف والحرب والسيطرة... الإثنان حُرِما من شفافية هذه اللحظات وامكانية هذه اللمحات.
في الحقيقة أتى علم التأمل للوجود وأبصر النور من رِحم لحظات النشوة الجنسية العميقة... لاحظ الإنسان وتأمّل لحظات ولمحات في النشوة الجنسية يختفي فيها الفكر فلا يعود له مكان، ومع اختفاء الفكر تختفي الهوية وتهوي، تختفي الألقاب وتنهار الحدود بين كيانين فيعزفان لحنًا واحدًا تردد النشوة بينهما صداه وتحيا نفْساهما صمته ومَداه. لحنًا واحدًا هو النشوة، له يستسلمان وفي أحضانه يرتميان وعلى إيقاعه جسديهما يتراقصان ويهتزان، وُولِد السؤال...
هل بالإمكان إيجاد طريقة للوصول إلى هذا الحال دون علاقة جنسية وأبعد من الأجساد المادية؟ وكان علم التأمل هو الجواب والجسر الذي يصل أجسادنا الروحية بسابع سماء فنحيا نشوة لاتسعها أرض ولا سماء.
وتذكر... على ثاني مقام أنت تحاول أن تسيطر على غيرك وغيرك يحاول السيطرة عليك. على ثالث مقام كلاكما يخشع ويستسلم لقوة أبعد منهما، لا تطالها يداهما ولكن ينبض بها قلباهما. كلاهما الآن عادا آدم/حواء من جديد، والله أكبر. وحين يلتقي آدم/حواء من جديد، يعودان إلى البيت القديم. 


اللحن الإلهي-٣٠

المقام الرابع يفتح للإنسان باب الأنس والإحتفال بالجمال... لا شهوة ولا رغبة ولاسيطرة بل حال من التناغم والتوحد مع الجمال. وِمن هذا الحال يولد الحب الصافية أنهارُه، الحب الذي هربت الغايات والمقاصد من وراءه. أنت ترى زهرة جميلة وسط الحقول، تقف أمامها مسلوبًا بسحرها وقد استولى على قلبك الذهول فبدأ يخفق... يخفق ترحيبًا وتقديراً لهذا الجمال. لا علاقة للقلب بالجنس، وهذا الحال خالي من أي شهوة جنسية ولا يطرح سؤالا عن الهوية... لا رجل ولا إمرأة، لا ازدواجية وثنائية بل إعجاب بالجمال لأنه جميل...
الجمال لا علاقة له بالرجل والمرأة... الجمال سر تكشف عين القلب خوافيه. عين القلب التي ترى بالحنين وتسمع بالصمت... في ليلة صافية تتلألأ نجومها ويداعب وجهك نسيمها... أنت تسمع النسيم يداعب أوراق الأشجار فتنحني له كما ينحني قلبك حين يلامس هذا النسيم وجهك. أنت تسمع صوت الصمت من حولك فيرتاح قلبك ويبوح بصمتك فيولد بينك وبين السماء حوار... حوار بالقلب لا باللسان... حوار جميل تعِّبر من خلاله عن تقديرك لهذا الجمال.
وأين المرأة والرجل من كل هذا؟ لا أحد... المحبة الحقيقية لا تحتاج ثنائية... الجنس يحتاج الإزدواجية ومن الإزدواجية يولد الصراع والمشاكل العائلية...بين الزوج والزوجة لأن الثنائية عكسية ومهما انساب الشريكان في تناغم يوِّحد هذه الإزدواجية فالوحدة لن تكون كلية وستظل جزئية... هذا أصل كل خلافات وصراعات الرجل والمرأة على مر التاريخ. الثنائية التي تأبى أن تستسلم لحالة التوحيد الكلية.
 الحب الحقيقي... المحبة ليست علاقة. المحبة هي أقرب إلى الصداقة. بإمكانك أن تحب الأزهار والنجوم والأشجار والصخور والطيور... بإمكانك أن تحب ما تشاء... هذا الحب لا يعرف الشهوة... هو محبة صافية أصيلة.
المقام الرابع هو مقام القلب والقلب صافي طاهر لا يهتم بشكل الذكر أوالأنثى لأن إحساسه يخترق المظاهر. على مقام القلب تُعلن إنسانيتك عن نفسها وتبدأ برواية قصتها... أنت للمرة الأولى إنسان يحيا إنسانيته ويتجاوز حيوانيته فمن يحيا على المقامات الثلاث الأولى هو مجرد حيوان من ضمن الحيوانات الموجودة... مجرد عدد بين أعداد معدودة... أسير تُسيِّره البيولوجيا. لا شيء مميز ولا شيء جديد.
أن يحيا الإنسان في جسد إنسان لا يعني أنه اتصل بإنسانيته... واذا نظرْت معي إلى مجتمعاتنا ستفهم معنى كلامي لأنك ستجد الكثيرين يولدون ويموتون وقد عاشوا حياتهم كالبهائم ولم يعرفوا شيئًا قبل مماتهم أعلى من المأكل والمشرب والملَبس والجنس. تَُعساء هم لأنهم لم يسمعوا قصة المحبة كاملة ولم تطأ أقدامهم عوالِم لا تُصاِدق المحبة فيها الشهوة...تَُعَساء ُهم لأنهم عاشوا في صارع الثنائية ولم يدخلوا معَبد الوحدانية داخل كهف القلب. لم يتعلموا فن المحبة الصافية المكتفية التي لا تطلب مقابلا بل تمنح وتُعطي دون أن تسأل ماذا سأجني. الجنس مشروط لأنه يضع الشروط فيطلب مقابل أن يمنح، وما في شي ببلاش في نظر صاحب المقامات الثلاثة الأولى. في المحبة شكر وامتنان وحمد لله... في المحبة عطاء وكرم من الوجود وتوحد مع الرزاق الوهاب الذي يهب من ُيعطي بقلبه دون أن يسأل عن مقابل للعطاء.
 مقام القلب هو البوابة حيث يلاقي الله العالم، الباطن يلاقي الظاهر، الأعلى يلاقي الأدنى، الصلاة تلاقي الجنس، المجهول يلاقي المعلوم، الُمضيف يلاقي الضيف، والنور يلاقي عبْد النور.
القلب هو الكهف فالقلب يحوي أسرار كيان الإنسان... القلب بداية لرحلة حج حقيقية، نافذة ينظر الإنسان منها إلى السماء...
القلب هو آخر مقام يتمكن من خلاله الإنسان من رؤية إزدواجيته... فالقلب بوابة اللقاء... بوابة لقاء لأجل وداع الأدنى حتى يبدأ الإنسان رحلته مع والى الرفيق الأعلى قبل أن يموت (موتوا قبل أن تموتوا، أي موتوا كشهوة واولدوا كصحوة في حال من الجلوة).
الجنس أدنى من المحبة والصلاة أعلى من المحبة... على مقام القلب الجنس يلاقي الصلاة.. إنه اللقاء الأخير والقلب يشهَد على هذا اللقاء الجميل...
صداقتك للأزهار والأشجار والطيور الآن هي نوع من العبادة. صداقتك معها ترتقي فيك وتَُزكيك.
 الوقوع بالحب يعود بك إلى مقام الجنس فيصبح الحب جنسيًا ويتحول إلى شهوة وامتلاك فنكون قد ضلينا الطريق. أما الإرتفاع بالحب فهو تحليق حتى الوصول إلى معبد الصلاة. علينا أن نمشي على أرض الحب بحذر حتى نتمكن من التحليق فالحب جدًا رقيق ودقيق. 
وقعنا في الحب... هذا ما حدث في مجتمعاتنا فمالَ حالنا... أنت تُعجب بإمرأة وتسحَرك عيناها... حين تنظر إلى عيناها تشعر بأنك ترتفع وتحلق فوق سماوات وأنك تُبحِر في مداها... ما هذا الإحساس؟ هو الوجود، هو الأعلى يتحدى الأدنى فيك، هو الإلهي يمد يده ليرتقي بالحيوان الذي فيك. لكن أين الوعي بداخلنا حتى ننتبِه للخطاب والنداء الإلهي؟