اللحن الإلهي -٣١
والآن معًا إلى خامس مقام ... مقام النطق بالحق ... مقام الصلاة والتواصل والصلة عبر ِصدق الحديث ...
أن تحيا كلمة الله بعد أن يسمعها قلبك ويفهمها صمتك فيرددها لسانك دون مجاملة ودون رياء، بل قول حق وعمل حق ويوم يحق القول على أهل الباطل ... ( لقد حق القول على أكثرهم فهُم لا يؤمنون ) ... هذا مقام النطق بالحق ... أن تقرأ ما وعاه وحواه صمتك وشَرَح صدرك فنطق به قلبك ، ( إقرأ باسم ربك الذي خَلق ...) ... (ُ قل هو الله أحد )، (ُ قل أعوذ برب الفلق )، (ُ قل أعوذ برب الناس ) ...
ما هذا القول وهذه الأسرار؟ ما سر الوحي؟ ما سر لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ إسم النبي هو الخامس يرمز لبداية طريقه في الغار من مقام النطق بالحق والتبشير بالرسالة أيها البشير وبعدها حتى وصل واتصل بالأكوان والأنوار الإلهية عبر سابع مقام فكانت بسم الله الرحمن الرحيم ... أي لا شيء سوى وجود الله وانعكاس هذا الوجود في مرآة النفس الصافية والنية الخالية من أي محتوى( إياك نعبد ) ...
النبي في الغار مرآة صافية ناصعة النقاء خالية من الأشياء تعكس فقط نور الله ... هذا حال ومقام من وصل واتصل وهاَم واكتفى بنور الله ففتح له الوجود عالم الأسرار بأمر واحد غفار .
ُولِدت الصلاة من على هذا المقام .. مقام النطق بالحق .. وجهت وجهي والفاتحة والسَور والآيات ... جميعها دلالات واشارات أرادها النبي الكريم أن تصلنا بمقامنا الخامس لننطق بالحق ونبتعد عن أودية الباطل ... الصلاة مفتاح لنبدأ بالتحليق على جناح قلب بالحق ينطق لنعُبر جسور الكلام ونصل واحة الصمت عند سابع مقام .
الخارج يلتقي الداخل عند مقام النطق بالحق ... قبل ذلك التقى الأعلى بالأدنى والآن الخارج يلتقي بالداخل ... الوجود خارجك ... الألوهية خارجك تُلاقي الألوهية داخلك من خلال الكلام ... وليس أي كلام ...
كلام حق وما معنى كلام الحق؟ كلام ذبذباته في ميزان الأكوان عالية القدر والشأن يرتفع بها الميزان أي تعلو معها وبها طاقة الإنسان ... وهذا سر الِّذكر والتراتيل والتجويد والدعاء . الخارج يلتقي الداخل، الألوهية تلاقي النفس المرضية فيك فتولد الصلاة .
ما هو السجود ؟؟؟ رمز وسر جميل يحكي لنا ويبوح بأسرار اتصالنا بمقام النطق بالحق ونحن في حال السجود والخشوع ...
وحَدها النْفس الخاشعة أي الساجدة تتصل وترتقي إلى مقام النطق بالحق .. وحدها هذه النْفس تؤهل صاحبها ليقول كلمة حق في وجه الباطل ، فلا يجامل ولا ُيساِوم بل هو صادق أمين على الوعد والعهد ... يحفظ الوعد ويصون العهد .. وهل أجمل من لقب الرسول الحبيب حين لقبوه بالصادق الأمين؟ فقد كان ُيلقي التحية والسلام على الجميع في كل مكان .
الداخل ينحني ويخشع للخارج في حال السجود ... الداخل يحتفل بالخارج في حال من يغني أغنية وينظُم قصيدة في الشمس أو القمر أو الطبيعة والوجود .
سأخبرك بالمزيد ...
الداخل يلتقي الخارج وكذلك الخارج يلتقي الداخل ... أنت في حال توجه وصلاة وتفكر ومناجاة لتمد جسور الوصل مع الله، مع الوجود . لكنك لست وحدك وهذا سر معنى إجابة الدعاء ... سر أن الله قريب يسمع دعوة عبده إذا دعاه فيجيب دعوة الداعي إذا دعاه ... ما هو هذا السر الأصيل الجميل؟ حين تذوب وتتحد مع كلامك ويتحلل قلبك ويخشع في مناجاتك ، حين تدمع العين من نشوة المحبة لله فأنت في أعلى وأرفع حالاتك .. بمعنى آخر أنت غير موجود بتاتًا ... تلاشيت بين يدي الرحمن وحين يحدث هذا التلاشي وهذا الإختفاء والإنحناء ستصحى السكينة الساكنة فيك وعندها إصغِ ... سيأتيك الجواب ... الله يجيب دعائك وصلاتك ومناجاتك ويبادلك المحبة بالمحبة وأبعد... سيأتيك الجواب على شكل رعشة أو دمعة أو راحة هي سكينة أصيلة ساكنة فيك وقد لمَستها يد الله بداخلك وبدأت تحيا نعمتها ولو للحظات ... هذا هو سر إصرار الحكماء الأولياء على الفكر الخالي في حال الصلاة... لتمد جسور الود مع الله ... حتى يتم اللقاء .
في يوم من الأيام زار رجل رسول الله وطلب منه أن يوليه أميراً على البصرة، فأجابه الرسول الحبيب بأن البصرة تزول وأنه سيوليه أميراً على بصيرته التي لا تزول . ما هي البصيرة التي تحدث عنها الرسول؟ ما هي الناصية؟
إنها ماتُسمى في الهند بالعين الثالثة ... مكانها بين الحاجبين وحين توجه وعيك لها ستشعر بها. الناصية أو البصيرة أو العين الثالثة هي المقام السادس في الإنسان .
لماذا أخبر الرسول ذلك الرجل بأنه سيوليه أميراً على بصيرته التي لا تزول؟ ماذا تعني السيادة على البصيرة؟ ماذا يحدث عندما تكون سيدًا على بصيرتك؟
مع البصيرة وعند هذا المقام يتوحد اليمين مع اليسار، الجزء الأيمن من الدماغ مع الجزء الأيسر ... الحدس والمنطق ، الفكر والإحساس ، الذكر الداخلي والأنثى الداخلية وكل إنسان منا داخله ذكر وأنثى فلا يوجد ذكر مئة في المئة ولا أنثى مئة في المئة فجميعنا ُولِدنا من ذكر وأنثى ومن كل شيء ذكر وأنثى .
الآن سيلتقي الذكر والأنثى داخليًا ... داخل الإنسان ... لقاء روحي هو، يجمع الذكر بالأنثى داخلك ... قبل ذلك وعلى المقام الثالث كان لقاء الأنثى والذكر جسدي جنسي ... أما الآن فاللقاء أعمق وأبَعد ... هنا اللقاء الحقيقي بين الأنثى التي بداخلك والذكر الذي بداخلك ... هذا هو الجنس الروحي ... علم النكاح الذي لم نفهم معناه في حياة الأنبياء والأئمة والحكماء ففسرناه وفسرنا علومهم بجهلنا فلم نفلح ولم نعرف الفلاح يومًا لأننا لم نرتقي وندخل مدينة العلم وظَللنا عبيدًا لجهَلة العلم من مرشدين ومعلمين هذه الأيام ...
الناصية هي ساحة اللقاء بين الذكر والأنثى داخلك ... ولماذا سُمِّيت بالعين الثالثة؟
لأنها تجمع وتوحد جزءك الأيمن بالأيسر، عينك الأولى بالثانية فتولد العين الثالثة ...
عيسى-ع- تحدث وأشار لهذه العين حين قال بأن العين حين تصبح واحدة سيمتلأ الجسد بالنور ... الوحدة تجلب النور من البيت المعمور فتنير كيان الإنسان بالنور ... نور إلهي يوِّحد ويجمع يمينك بيسارك فيختفي الصراع من حياتك ، بين جانبك الذكري وجانبك الأنثوي وتعلم حينها أنك المختار وتدخل في كل قرار دون أن تحتار. أنت السيد على نفسك الآن وأنت صاحب القرار . ذاب الإختلاف بين يمينك ويسارك ... إختلاف واضح كالشمس في عز النهار ... بين المنطق والمشاعر، بين الرأس والقلب وحتى في الشكل ... هل نظرت إلى المرآة بعمق يومًا ؟ إن لم تفعل فانظر من جديد وراقب الإختلاف الواضح الأكيد بين الجزء الأيسر من وجهك والجزء الأيمن .
خطوة واحدة في الإنتظار أيها المختار بعد هذه الوحدة وانسياب الحدس والمنطق في ذات القرار .
على المقام السادس ، مقام البصيرة أصبحتَ واحداً من الداخل ... وحدة داخلية لا تعرف الصراع والمشاكل ... والآن خطوة واحدة في الإنتظار ... الواحد داخلك يتوَّحد بالواحد خارجك ... عندها يحدث الإنفجار ... إنفجار نور لا نار ... لقاء الذرات وتوحد الطاقات ... طاقتك النورانية بالطاقة الكونية الإلهية ... الآن أنت والكونية ، الفردية تذوب في الكلية في نشوة أبدية كان الجنس الذي تحدثنا عنه على المقام الثالث مجرد لمحة لحظية عن أبدية أحدية روحية . وما النشوة سوى تعبير عن التوحد سواء أكان توحدًا بين الجسد والطعام ( نشوة جاهلة ) ، بين الحاكم والمحكوم ( نشوة مريضة )، بين جسد الرجل والمرأة( نشوة سطحية ) ، بين القلب وكل موجود ، الأعلى والأدنى ( نشوة صافية ) ، بين الداخل والخارج ( نشوة عبادة)، بين اليمين واليسار، جنس روحي بين أنثى داخلية وذكر داخلي( نشوة وجودية )، وبينك وبين الله ( نشوة إلهية: نور السماوات والأرض : سماء وأرض ).
على المقام الخامس كان مجرد لقاء والآن هو توُّحد تولد منه الشهادة فحينها ستشهد أن لا أحد إلا الله فطاقتك لم تكن سوى تجسد وامتداد لطاقة الأكوان والرحمن . وهذا ما حدث مع الرسول الكريم في الغار ووُلِد سر البسملة ، بسم الله الرحمن الرحيم الذي يصلنا بأرفع المقامات وأرقى الدرجات وسابع سماوات ... وهذا ما حدث مع كل حكيم ونبي مستنير .
على أي منزلة من هذه المقامات أنت ، تكون منزلتك في العوالم أو السماوت ... سبع سماوات رمز بها الرسول الكريم ( هو الذي خلق سبع سماوات طباقًا ) والحكماء والمستنيرين لسبع مقامات توازي سبع عوالم ومنازل نختارها ومباركين نحن إن اخترنا أن نسكن أعلاها ... على منابر من نور ...
اللحن الإلهي-٣٣
من الظلمات إلى النور
فبعد ذوبان الأنا الناقصة في الله، طهارة من الظلمات، وأعمال مثقال ذرات نور من نور تنيرها النَّيات . ما هي الأنا؟ اختلفت تسميتها ووصْفها من دين إلى دين ومن زمن إلى زمن لكنها الظلام داخل الإنسان ... ذلك الظل الذي يسير ويسير يتغذى على الهشاشة والباطل وكل ما هو واهم حتى يخدع الإنسان ويزين له الوهم والباطل فيسعى خلفه ويجري وارءه ويتوه في ظلمات نفسه ... نعم الأنا هي النفس اللوامة الأمارة بالسوء ... هي الجحيم ... هي الإستكبار والغرور. ولكن قبل كل شيء هي لاشيء... هي فراغ لا يحوي شيء ... لا حضور ولا حضرة ولا معرفة ولا كذبة ولا حقيقة... الأنا سراب يسُبر أغوار عقل الإنسان فتُترجمه أفكاره صوراً وخيالات، ويستجيب الجسد بكل ما فيه وينفِعل فتولد المشاعر والإنفعالات ... يستجيب الجسد
ويتجاوب مع صور الفكر والخيالات فيولد الطمع والجشع وما يسميه المجتمع بالطموح ... إحذروا فالطموح ليس سوى جنون وسعي خلف وهم وسراب وطريق السراب لا نهاية له لأنه ومن البداية ليس بطريق ، بل سراب آَمنْتَ وصَّدقتَ بأنه طريق .
حال الفناء والإنمساح بالله ، حال الإستسلام والتوكل على الله حتى لا يصيبنا إلا ما كتَب الله لنا هو حال عودة الفكر إلى صفائه ونقائه فاسحًا المجال للِّذكر ليبوح بأسراره . الأنا تذوب في محيط الألوهية، ظلام الأنا ينيره نور السماوات والأرض فيكشف ادعاء هذا الظلام وغروره. حال الفناء هو الإكتفاء بالله ... هو الحال الذي نطق به كل نبي ومستنير وقال حسبي الله ونعم الوكيل وقبل هذا الحال فكلامنا مجرد تقليد وزيف وتمثيل ... ألا نلاحظ حالنا المائل الجاهل رغم عدد الصلوات والتسبيحات؟ لماذا؟ لأننا لا نمشي أقوالنا ولا نقول ما في صدورنا ولا نكشف خوافي أمورنا ولا ُنعلِن عن سرائر ومكنونات نوايانا .
نعم يا إخوتي طريق الله صعب على عاشق الدنيا وعاشق الوهم...كالقابض عالجمر هو من يسير على درب التدين الحق ... لا تدُّين الأمم وحكامها وأتباعها وأموالها .
مع الله خروج من الظلمات إلى النور ... مع الله ِغنى واكتفاء وِسحر بما حواه معبدنا من عالم أكبر انطوى فيه ، ودائمًا الله أكبر. مع الأنا ظلام وفراغ وكيف يملأ صاحب الفراغ كأسه الفاضي؟ يجري خلف المال والعيال والسلطة والمكانة الإجتماعية والشهرة والحب ، والعجيب والغريب أن الجميع يرى محاَلة الدوام لأي من هذه الألعاب فلا دائم إلا وجهه ووحَده له الدوام ... لكن لماذا لا أبحث عن الدائم القائم وأجري خلف الزائل الفاني؟ هذا هو السؤال ومتى صدق السائل هَلك المسؤول لذا نهرب من السؤال ولا نريد أن نسمع الجواب . المال لم يجلب السعادة لأي إنسان وبعد المال ماذا؟ والحب ينتهي بعد شهر البصل ويتحول إلى عداوة وروتين ومَلل وابتسامات زائفة ، ثم ماذا ؟ ثم هروب من السؤال ومحاولة لأن لا نسمع الجواب .
الأنا ... النْفس اللوامة والأمارة بالسوء التي لا تقنَع ولا تشبَع هي أشبه بسلة النفايات ...
هي سلة لا نهاية لها ... سلة تلتهم كل ما ترميه فيها فيظل يهوي يهوي دون أن يكون لهَواه وهوايته وهاويته قرار. حتى لو رمْيت العالم أجمع في سلة نفايتك ، في نفسك الأمارة فلن تشَبع ولن تقَنع ... لكن إلى متى؟ وهذا هو سر مقولة أعوذ بالله من كلمة أنا لكنها ليست مجرد مقولة ... هي فهم وعلم وعمل يزيل عن كاهل الإنسان أثقال الحمولة ... حمولة رغبات وويلات وطموحات الدنيا ... ولا يملأ عين ابن آدم سوى التراب ... لكن حينها يكون الأوان قد فات فلا يبق سوى حسرة وآهات.
من يخرج ِمن الظلمات إلى النور يرى الله ببصيرته ويحيا أنواره في سريرته وعلانيته ويسري ِعلَمه وطاقته في عروقه ودِمه ... يا أيتها النْفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرْضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ... لماذا أنتظر موت الجسد حتى أفهم وأعي أنني لست بجسد فيضيع الوقت وأنفصل عن المدد ؟؟؟ لماذا لا أبدأ من الآن فالآن هو الزمان والمكان ... موتوا قبل أن تموتوا ... أي لا تضيعوا أوقاتكم هباء وتعيشون حياتكم كِذبًا ورياء ... إبحثوا عن الذات الأصيلة عن أرواحكم عن نفسكم الراضية المرضية الشفافة لتدخلوا جنة الله الآن وهنا ...
اللحن الإلهي -٣٤
من الظلمات إلى النور-٢
من دخل هذه الجنة كان من ِعباد الرحمن وقبل هذا فالعبادة ليست سوى للمال والبنيان والقصور والخلان ... قبل هذا نعبد البترول ونضع الله والرسول فكرة وعقيدة نعتقد بها داخل رؤوسنا، ولا يهمنا سوى أن نملأ جيوبنا.
فكرة ووهْم صاغته الأنا حتى لا نُلهي أنفسنا بالحق فلا وقت نضيعه لأننا نريد أن نلتهي بالباطل ... لكننا اخترنا الطريق السهل ... اخترنا أن نجعل الله صنماً في رؤوسنا نعبده ونردد الكلمات دون حضرة وحضور النيات والطاقات وطهارة القلوب ... ومن لديه الوقت ليقبض على الجمر؟ من لديه الصبر والقدرة على الإحتمال في حضرة واغواء سيدنا وحبيبنا المال؟ هكذا ... فِهمنا الدين على هوانا وفصلناه على مقاسنا بما يتوافق وجهلنا ومصالحنا، ودخان يطير من سيجارة نفوسنا اللوامة التي تحِرق أرواحنا وتُشِعل نيرانها بطاقاتنا وبدلاً من النور نجد ضبابًا يعكر صفو أجوائنا ... حتى الكلام لم نعُد نتواصل مع معناه ومغزاه ...
المسلمون مقتنعون بأن الله هو المحبة وأن الله هو الرحمن الرحيم ... لكنه مجرد اعتقاد فهُم يعتقدون بأن الله يُحب البشر ويرحمهم ... لكن لو علموا واختبروا وعاشوا التجربة الروحية لعَرفوا بأن الله ليس صفة أو لقب ولعَرفوا بأن الله لا يُحب بل هو المحبة بكامل جلالها ... لعَرفوا أن الله لا يرحم بل هو الرحمة بكامل غفرانها. بإمكانك أن تقول أن المحبة والرحمة إسمين لله ومن هنا ُولِدت أسرار الرحمة ... كتَب على نفسه الرحمة والرحمن الرحيم . لو كان الله يُحب ولم يكن المحبة فمن الممكن أن لا يحبنا في بعض الأحيان ... من الممكن أن يكره أو يغضب ولا يرحم وعندها ما العمل؟ .... لا، فلنفهم معنى ما قاله الرسول بالقلب لا بالفكر. لنسمع ونصغي ونحن في غار القلب وفي حال الذكر ... غضب الله الذي يتحدث عنه النبي ليس ما تفهمه أنت عن الغضب... هذا علم وسر كبير ... الله يساوي الرحمة، يساوي المحبة وعليك أن تكون على قدر الأمانة والمهمة ... إن لم تفهم ولم تبحث عن نفسك المطمئنة ولم تدخل جنتك الآن وهنا فأنت لن ترى الرحمة ليس لأنها غير موجودة أو لأن الله غاضب منك ... لا ... ببساطة أنت لم تفتح بصيرتك لترى، أنت ترى من منظار أوهامك وأحلامك وتوقعاتك وجميعها ستخونك يومًا ما ... خيانتها لك ستكون جحيمك ... الأمر عائد لك ... إما أن تتوحد بنفسك الراضية لترى الحقيقة، لترى جنة الله الآن وهنا وفي كل مكان وزمان، أو أن تُرافق السوء وتسمع لوهْم نفس لوامة واهمة فتحيا جحيمًا واهمًا خلقْتَه بنفسك لنفسك ... فماذا تختار؟ أن تكون قابضًا على الجمر ومع الجمر برد وسلام وثقة وأمان بالله؟ أم أن تحرقك نار شهواتك وأحلامك التي حتى وان تحققت فلا تزال تريد أن تتحقق ؟
إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ... عبرة وآية لمن تفكر وتذكر واعتبر ... إرحم لترى الرحمة ... أطلب الحق لترى الحق والحقيقة .. أطلب الباطل وسوف ترى وهماً وباطلاً .
اللحن الإلهي-٣٥
بين الحيوان والإنسان
غريب ومدهش هو ذلك الصمت الذي تشعر فيه وأنت في حضرة الحيوانات. ساحر ومذهل هو سلامهم النفسي وعيشهم حياتهم بفطرة أصيلة وبراءة جميلة ... لا احتقان ولا قلق ولا خوف ... لا ذكرى مؤلمة تطاردهم من الماضي فتُحيي مخاوفهم وأوهامهم، ولا فكرة عن المستقبل وكيف يجب أن يكون، تؤرق منامهم.
يبدو أن وحَده الإنسان قد وقع ... منذ أن سقط آدم من جنته ولا زال سقوط الإنسان مستمراً. من آدم وحواء وكل جيل يسلم راية الوقوع للجيل الذي بعَده فبدلاً من التقدم نتراجع وبدلاً من الإرتفاع نَقع . لا توجد إشارة واحدة في تاريخ البشرية المكتوب بأيدي حكامه ، تشير إلى رقي وسمو في كيان وبنيان الإنسان. طبعًا نحن نعرف فترات تاريخية تحكي عن الإنتصارات والفتوحات والدول الحاكمة التي يملأ المال والذهب خزائن حكامها ... لكن لا علاقة لهذه الألعاب بسمو وارتقاء وتجلي الإنسان . ثلاثمائة عام والعلماء يخبرون الإنسان بأنه تقدم وتطور وارتفع عن مستوى حياة الحيوان وسَبقه بمراحل فأصبح كائنًا مميزاً وفريدًا على هذه الأرض. لكنه يبدو مجرد كلام .... فما الحكاية إذًا؟
لنفهم الحكاية علينا أن نعي أن سقوط آدم من الجنة يرمز إلى سقوط الأعلى ... مقام الإنسان أعلى من مقام الحيوان وجوديًا، فالإنسان بإمكانه بلوغ منازل ومقامات يعي فيها أنه نور من نور الله ، من روح الله وهذا هو سر الشهادة ...
الحيوان لا يملك المفتاح لهذه الشهادة َبعد. الإنسان أعلى وجوديًا من الحيوان ومع هذا فقد وَقع ... وَقع لأنه الأعلى وجودياً وبإمكان الأعلى أن يَقع .. أما الأدنى، الحيوان، فأين سيقع وكيف ؟ هو يحيا على أرض السقوط، أرض الواقع من البداية، لكن الإنسان كان في جنة الخلود ، أرض الحق واختار السقوط . حكاية تدين الإنسان وهو يرتفع بطاقاته مقامًا تلَو المقام ارتفاعًا من الفرش إلى العرش ومن الأرض إلى السماء هي أشبه بتسلُّق الجبال ... الخطر موجود والوقوع متَوقع في أي لحظة. هذا هو خَيار الوعي ومسؤولية كل شاهد واعي ... الإرتفاع منازل ودرجات أو الهبوط منازل ودرجات ... في أعلى عليين أو في أسفل سافلين . وعي شاهد على الأنوار الإلهية مع الأبرار والصالحين والصديقين أم وعي أسَرته وسجَنته غرائز الجسد الذي يسكنه فتَاهَ في ليل رغبات وأحلام وأوهام هذا الجسد؟
الحيوانات لا تملُك وعيًا َبعد ... فما الذي سيسقُط فيها وَمن الذي سيُخطأ فيها؟ من الذي سوف يضل الطريق؟ كي تضل الطريق أنت بحاجة لحرية واختيار ... عندها بإمكانك اتخاذ القرار بحرية فتختار أن تضل الطريق ...
وحَده الإنسان قادر على أن يكون قديسًا أو آثمًا، وانتبه فالقداسة والإثم، الفضيلة والرذيلة متقاربتان معنويًا رغم المسافة الموجودة بينهما لغويًا ... فالقداسة موجودة لأن الخطيئة موجودة .. الفضيلة موجودة لأن الرذيلة موجودة ... إحتمال الإرتفاع بوعي الإنسان موجود لأن احتمال الهبوط بهذا الوعي هو أيضًا موجود.
لكنها مغامرة ومخاطرة ممتعة ... مخاطرة ومغامرة تزيد الرحلة إثارة . والسؤال هو: هل سأحقِّق قدري وأ ِصل بيتي وأتصل بأصلي؟ أم أنني سأتوه وأضل قدري وطريقي للأبد؟ والتأمل هو هذه المخاطرة ودون مخاطرة لا نمو ولا سمو ولا ارتفاع ولا تحليق ... دون مخاطرة يحيا الإنسان على هامش الحياة لأنه لم يثق بالوجود، لم يثق بالكلية ويقدم ذاته قربانًا لها ... اللهم تقَّبل منا هذا القربان .. إمنح نفسك للوجود دون خوف مما هو آت، يمنحك الوجود بركاته ويحيطك برعايته. هذه الثقة هي الإيمان الحقيقي دون أفكار مسبقة ومعتقدات واهمة عما يجب أن تكون عليه الأحوال ...
وحدها الثقة كافية وافية ثم الإستسلام بوعي ورضى وتسليم حتى تكون مشيئة الله.
التأمل خطوات وارتفاعات في أرضك وسماك لتعود وتدخل جنة عدن التي هجرْتها ... ارتفاع بعد السقوط وعودة بعد الهبوط للبيت القديم العتيق الذي لم نغادره يومًا لكن رؤيتنا حُجبت فنسينا كيف نتذكر ... رحَلت الذكرى.
ما الفرق بين براءة الحكيم المستنير وبين براءة الحيوان؟ إذا نظَرْت في عيون المستنير ستجد برارءة الأطفال وتشعر بها في عينيه... واذا نظرْتَ إلى البقرة مثلاً أو إلى العصفور فستجد براءة وصفاء فما هو الفرق؟ ... الفرق هو بين الجهل والحكمة، بين مسار الحيوان واختيار الإنسان ... براءة المستنير هذه هي براءة واعية حكيمة
اختارها واجتهد لاستعادتها حتى يعود كالأطفال ... براءة الحيوان هي براءة لاواعية، براءة جاهلة لم يختارها.
المستنير فَقد برائته يومًا ما بسبب المجتمع، لكنه استعادها ... لكنه مشى دربه ، تعلم في الحياة درَسه وأتم رحلة حجه وها هو يحياها واعيًا لمعناها ... الحيوان والطفل يشتركان في جهلهما لمعنى البراءة ومغزاها... لم يفقدا برائتهما بعد وما لم يفقداها فلن يعرفا قيمتها ومعناها ... استعادة البراءة تعني البراءة الواعية الحكيمة وهذا هو حال الحكيم والمستنير .

