الثلاثاء، أغسطس 19، 2014

سلسلة اللحن الآلهي - الجزء الرابع






اللحن الإلهي -١٦

أنت تمشي إذًا أنت تمشي في الله، نائم إذًا أنت تنام بين يدي الله لأن لا وجود إلا لله. الله هو يقيننا لنثِق أن الخير موجود. الله يعني أنك الخير والخير هو الجوهر الذي قام عليه خَلق الوجود لِذا فمستحيل أن يكون للشر وجود.
مستحيل أن يكون للشر وجود... لكننا لم نسمع أغنية الحياة كاملة أو أننا حكمنا عليها قبل أن نسمعها... لكننا نشاهد الحياة بأفكارنا ومُثُلنا، مفاهيمنا وعقائدنا...
نعيش الحياة ونحن نتوقع كيف يجب أن تسير الأمور. الأمور كما هي عليه يا أخي فمن طلب منك أن تتوقع كيف يجب أن تسير الأمور؟ من طلب منك والوجود لا يعرف معنى كلمة (يجب)؟ وحده الإنسان يعرف معنى هذه الكلمات (يجب، واجب)... وحده الإنسان عِرف هذه الكلمة وق َسم وحدة الوجود إلى خير وشر، ثم وضع مفاهيم ونظريات وكتُب ومؤلفات حول كيف يجب أن تسير الأمور فابتعد عن الحقيقة والطبيعة والفطرة، ابتعد عن قانون الحياة الأعلى من الكتُب والكلمات. إهدأ فالحقيقة موجودة هنا كما هي فلا تدنسها وتدخل محرابها حاملاً كلمة (يجب) في قلبك. طهر قلبك حتى ترى هذه الحقيقة وتحياها كما هي لا كما تريد أنت وان لم تفعل فستحيا الرجم والإدانة، سترجم ما لا يعجبك في الحياة وتدينها.
بعض المفكرين الغربيين حاولوا إظهار الأديان الشرقية على أنها درب تملأه الحجارة... حجارة يلتقطها الرحالة على درب هذه الأديان ليرجموا بها الحياة. غير صحيح... لن تجد دروباً سخرت نفسها لحب الحياة وخدمتها والخشوع لقداستها مثل دروبها؟ أين ستمشي دروبًا أثمَرت أشجارها بكلمة نعم أكثر من دروب هذه الأديان؟
الله هو الحياة والعبادة داخل معبد الحياة أي محبتها واحترامها والخشوع لقداستها هي العبادة الحق. وموقف هؤلاء المفكرين الغربيين من أديان الشرق سببه محاولة حجب نور هذه الجواهر عن الغرب، سببه ِقلة من العلماء والمفكرين والدعاة الشرقيين لم يفهموا المعنى والمغزى بل تعلقوا بالنص والمبنى، لكنهم ِقلة لم يتأثر بها نهر هذه الأديان الصافي الشافي الُمعافي لقلب ونْفس الإنسان، قلة لم تنساب مع تيار هذه الأديان حتى فهي لا تزال على الشاطىء قلوبها عطشى ولم تنزل النهر بعد لتروي عطشها وكفاها حديثًا عن الماء.




اللحن الإلهي -١٧

هذه القِلة لم تفهم جوهرة الأديان فلم تُحب ولم تحترم الإنسان، لم تُحب الحياة، لم ترقص ولم تبتسم. إذهب إلى معابدنا وكنائسنا ومساجدنا ولن تجد عبير الزهور ونبض الحياة، زقزقة العصفور وأسرار الحياة. ستجد جدية وكآبة وتعب وتنسى معنى الإبتسامة والحياة.
قلة من المسيحيين يقولون بأن المسيح لم يضحك في حياته. أنا لا أصدق ذلك ولا يمكن أن أصدق فالمتأمل يعرف المسيح أكثر مما يعرفه أتباعه. لابُد وأن المسيح ابتسم وضحك طوال حياته. في الواقع لقد بلغت ضحكته ذروتها حين قرر اليهود صلبه لأن الأمر برمته يدعو للضحك. المسيح يرى هؤلاء الأغبياء يحاولون قتل ما لا يمكن َقتله، يحاولون صلب ما لا يمكنهم صلبه. إن محاولة قتل عيسى هي محاولة غبية ولا ُبد وأنه ضحك على غبائهم فالأيام لا تزال تردد صدى ضحكته لمن يسمع.
الكنيسة لم تسمع ضحكة عيسى فَبَنت الدين المسيحي على الصليب أكثر منه على المسيح. لو استمع الكهنة والرهبان للمسيح لارتفعت المسيحية إلى قمم عالية من الوعي الروحي، لكنهم لم يسمعوه بل اهتموا بالصليب، والصليب هو الموت والحزن والجدية.
لو أنهم سمعوا ضحكة المسيح الذي قام لا آهة المسيح الذي صُلِب لعلموا أسرار وعي المسيح الذي لم يقتله أحد ولم يدمره صليب. الأمر ذاته ينطبق على باقي الأديان وأتباعها وليس على المسيحية فقط. جميعنا مسيحيين ومسلمين وهندوسيين ويهود نهتم بالموت.
حين يكون أحدهم حيًا يتنفس ترانا لا نهتم به، لا نزوره، لا نكلمه ولا نكترث لأمره... لم نفكر يومًا بأن نجلس بجانبه ومحبتنا نشاركه، لم نرقص ونحتفل معه ولو للحظات ولكن عند الممات...
بعد الممات نتذكره حيًا وكأننا لم نعلم أنه كان حيًا. الآن مات، الآن نبكي ونتذكر ما فات، ليس قبل هذا. نتذكر الموت لا الحياة ونستذكر الحياة بعد أن يحل الأجل ونحيا أموات من المهد إلى اللحد.
في يوم من الأيام توفى عدو من ألد أعداء فولتير، فأسرع أحدهم لإخباره بالنبأ السعيد قائلا: لقد مات عدوك اللدود. فجأة حلت الصدمة ورحلت النقمة وأجاب فولتير: سأشتاق إليه كثيراً وبدأ بالبكاء وهو يقول: كان رجلا عظيمًا، ذكاؤه حادًا، حياته جميلة وخسارته لا تُعَّوض. لم يصدق ناقل الخبر نفسه حين سمع الجواب.
وهذا هو الحال مع الأصحاب والأحباب، عداوات وخلافات بين الأصحاب والأهل والأحباب، شتائم وِسباب وحين يرحل أحدهم عن الدنيا تدمع العين ويتحسر القلب ويصبح الراحل عظيمًا رائعًا وتبدأ مآثره بالإعلان عن نفسها، نندم ونشعر بالحسرة لأننا شتمناه أو خاصمناه. فقط حين يرحل الناس نكرمهم ونحترمهم ونبجلهم وبالأوسمة ُنقلدهم. لكن أحياء... أحياء لا قيمة لهم ولا لعملهم أو لإبداعهم... أحياء نحن لا نراهم... أحياء نرجمهم وأموات نمدحهم.


اللحن الإلهي -١٨

توفى رجل بائس في يوم من الأيام فذهبت زوجته إلى الكاهن وسألته كم يحتاج من المال ليقول في زوجها عذب الكلام، ليتغنى بمآثره وبما قام به من أعمال. أجابها بأن لا حصر ولا عد لما لديه من أقوال وكما أن لكل مقام مقال فلكل مقال سعر محدد من المال. طلب منها مئتي دينار. أجابته المرأة بأن المبلغ كبير وأن تدبيره سيكون أمر عسير فهل من مقال يحتاج مبلغًا أقل من هذا بكثير؟ فأجابها بمقال صغير سعره مئة دينار لكن مع هذا المقال لن يكون المدح والثناء على زوجها بالأمر المثير. فطلبت منه مبلغًا أقل فأجابها بمقال سعره عشر دينارات ونبهها إلى أن الثناء والمديح لن يجدا مكانهما في المقال، سيكتفي بقول الحقيقة دون تزيين وابداع من وحي الخيال.
حين يموت الإنسان نبدأ بسرْد الأكاذيب الجميلة والمآثر العليلة حتى يبدو الأمر وكأن الجميع إلى الجنة وارحة النفس ذاهبين. الجميع بَِمن فيهم السياسيين....
لا ُبد أننا نهتم بالموت على حساب الحياة. نحن أمة تخشى الموت وتخافه، تخشاه وتفكر فيه لدرجة العبادة حتى أصبح الموت رمزاً للدين والشهادة.
الدين الحقيقي لا يقوم على عادات وتقاليد وأعراف نتوارثها جيلا بعد جيل. العادات عبق من زمن ماضي رحل ولم تبقَ منه سوى الذكرى... العادات غبار أيام عابرة، ماتت ورحلت ولن تعود، أما الدين فحي يتنفس ومتى أصبح وراثة لعقائد وأعراف الأجيال السابقة أصبح في خدمة الشيطان أكثر منه في خدمة الله، في خدمة الموت أكثر منه في خدمة الحياة، في خدمة الطوائف المنظَّمة والسياسيين ورجال الدين لا روح الإنسان. حينها يسِدل الدين ستاره ويحجب نفسه ويغلِق نوافذه فلا يرى لنفسه
ُُمستقبلاً، فالأعراف والتقاليد تنظرإلى الخلف لترى ما خلفته الأجيال السابقة وما تركته من أعمال وأطلال أما الحياة فتسير إلى الأمام.
الدين الحقيقي لم يهجر النفوس ليتخذ النصوص مسكنًا له. كل حرف في النصوص الدينية وكل كلمة فيها قد خفق قلبها بنبض الدين في يوم من الأيام ولا زال يخفق في كل يوم من الأيام... خَفق بروح كل صادق أمين تحدث بهذه الكلمة ونطق. النبي والمستنير يُحيي الكلمة ويرويها معاني وحكمة وعبرة فيفوح عبيرها ويستنشقه كل قلب باحث عن الحقيقة. لكن المعنى الحقيقي والحكمة والعبرة، جميعها ترحل برحيل السيد المستنير الذي خرجت هذه الكلمات من روحه لا من لسانه، من تجربته لا من فكره وتبقى الكلمة حروف لا حياة فيها.
بإمكانك تحليلها وشرحها وتفسيرها بآلاف الشروح والتفاسير، بإمكانك إلباسها معانٍ ومعان تستمدها من مخيلتك وأفكارك وثقافتك ودراستك لكن المعنى الحقيقي رحل. من هنا مر السيد المستنير ُمخلِّفًا وراءه أثره وأنت لا تزال تُلاحق هذا الأثر وتعبده على شكل نصوص.
حين مشى المسيح وخاطب تلاميذه كان كلامه ينبض بالحقيقة حية خالصة لوجه الله، كلمته لها قلب يخفق وفيها نسيم ينعش القلوب، كلمته تحوي حكمته وتجربته. حين رحل المسيح غادرت الحياة الكلمات والآن... الآن بإمكاننا أن نجمع كلامه ونصنع منه نصوص ونصوص لكن المعنى لا تحويه سوى النفوس.
الدين الحقيقي لا يوجد في النصوص والباحث عن التدين لا يبحث عن شروح وتفاسير النصوص بل يبحث عن ما يُحيي بالتجربة النفوس، يبحث عن سيد حي مستنير. وحين تلقى السيد المستنير سيفوح من جديد ذاك العبير، عبير النصوص والكلمات... ستتفتح أزهارها في قلبك ويطرب لحنها سمعك بعد أن تعود لها الحياة.


اللحن الإلهي -١٩

الُمعلم المستنير اختبر ما اختبره صاحب الكلمات وها هو ينفخ فيها الحياة من جديد وهي حية في قلبه أحَيتها روح تجربته وها هو يُحييها الآن في قلبك بعدما كنت تحملها كلمة خالية من أي حياة، كلمة أثقَلتها معاني المفسرين والمثقفين فازدادت حيرتك وعَلت في قلبك الآهات.
الدين الحقيقي لا يوجد في الطقوس. الطقوس حركات وشكليات إن لم تكن تستمدها من سيد ومعلم مستنير يُعلمك معناها ويرشدك إلى حكمتها وأسرارها ومغزاها. مع المعلم يولد الطقس نتيجة المحبة والتواصل والِعلم والتعلم، طقس له سياق ومعنى في حياتك ومسيرتك ورحلتك الداخلية لتسمع اللحن الإلهي. طقس حي لم تُعلمك إياه عادات من سَبَقك من الأجيال، طقس ِعشت أسرتره وعلومه والآن هاأنت تتعلمه...
حين تلتقي المعلم الحي، حين تشعر بحضرته ويشِعرك بحضرة الله فيك وفي كل مكان ستشعر برغبة في الخشوع، في الإستسلام والتسليم والسلام... هذا الخشوع هو الخشوع الحقيقي... أنت لا تخشع لأن أحدهم طلب منك الخشوع وكيف للخشوع أن يكون واجبًا؟ الروح تشعر برغبة في الخشوع، في التقوى والزهد بعد أن تذوق سلامًا وترى جمالاً ليس كمثله شيء وغير هذا الخشوع لا خشوع بل طقوس وشعائر بلا روح وبلا خشوع. خشوع الروح هو خشوع حي ينبض بالمعاني وليس مجرد حركات وأواني، خشوع ُولِد من رحم المحبة لا من سجن الواجب... واحْذر، فمتى سلكْتَ دروب الواجب نسيت كيف تسلك دروب المحبة فالواجب عكس المحبة، الواجب بديل وهمي للمحبة.
الدين ليس في الطقوس والشعائر ولكن متى ُوِجد الدين ُوِجدت الطقوس والشعائر النابعة من المحبة الصادقة والإحساس العفوي، من أسرار عشْتها وشِربتها وها أنت الآن تحياها وتُجسدها. وكيف لك أن لا ترافق النبي محمد والمسيح حين يدعوك للصلاة معه؟ كيف لنفسك أن لا تخشع وتصلي وتتصل بأصلها في هذه الحضرة؟ كيف لك أن لا تراقبه وهو يتحرك ويمشي ويتحدث؟ أن لا تستنشق عطره؟
أمامك خيارين: إما المحبة أو الرجمة، إما أن ترجم النبي والمستنير أو أن تحبه فلا يمكنك تجاهله والإثنين شعائر وطقوس. الرجم هو طقس العدو واتباع النبي والمستنير هو طقس المُحب. ومن أنت؟ المحب والصديق أم العدو الذي يشعر
بالضيق؟ إذا كنت محبا فالمحبة طقسك وحياتك وصلاتك وان كنت عدوا فالعداوةُ طقسك وحياتك وصلاتك...
أنت تسمع رجل الدين يتحدث ويتكلم، لكن كلامه لا يوازي ما قاله الرسول الحبيب أو المسيح، فالرسول والمسيح يحدثانك بما اختبراه وعاشاه... يحدثانك والمسؤولية تُلاحق حديثهما كظلهما...
رجل الدين لا يتحمل مسؤولية الكلام الذي ينطق به، هو يتحدث على مسؤولية الرسول والمسيح فهو لم يختبر شيء. السيد المستنير يتحدث على مسؤوليته، سلطته تنبع من تجربته لا من تجربة غيره.
وبعد... فالدين لا صفة له ولا لَقب. ليس بالإمكان أن يكون الدين سنيًا أو شيعيًا أو مارونيًا أو كاثوليكيًا أو يهوديًا أو بوذيًا أو أو أو.... كما الحب تمامًا... هل تنعت الحب بالكاثوليكي أو بالسني أو الشيعي؟ الحب هو الحب فلِماذا لا يكون الدين هو الدين دون ألقاب و ِصفات؟
 لا أحد يولد في الدين بل على الدين أن يولدَ فيك... يولد فيك بعد رحلة حج طويلة على درب الحق تبحث وتبحث وتفشل وتنجح وتقع وتقِف ثم تتابع المسير...

الدين رحلة نمشيها فُرادًا، نبحث في وسط العتمة عن النور وعن إنسان صادق وأمين ونطلب العلم الإلهي من سيد مستنير حتى ولو كان في الصين...
الدين ليس مهمة جماعية اجتماعية فلا علاقة للدين بالمجتمع أو العقل الجماعي. الدين علاقة حميمة بينك وبين الوجود كالحب تمامًا حين تفتح قلبك وروحك للحبيب وتتوحد معه وتصبح له ويصبح لك أقرب من أي قريب...
هكذا الدين... حب متبادل، وحدك تشعر بهذا الحب، وحدك ترقص على أنغامه وتحيا بركة أيامه لا المجتمع. الدين عفوي لا يُعَلم وهل تتعلم الحب؟ نحن نحيا الحب لا نتعلمه والدين تحياه لا تتعلمه. بائس هو اليوم الذي ستلجأ فيه البشرية إلى معلمين يعلموها كيف تُحِب وهذا اليوم ليس ببعيد. في الغرب وفي أميركا بالتحديد عديد من الكتب تحت عناوين (كيف تُحب، وكيف تكسب الأصدقاء)... كتُب غبية فمتى فقد الإنسان قدرته على الحب لن يجد ما يتعلمه عن الحب في أي كتاب.
الدين ثورة... ثورة على الوهم الخارجي. على زيف المجتمع والسياسة والحضارات والثقافات... ثورة تهمس لنا بأن نستفتي قلوبنا ونستمع إلى نداء ذلك الصوت الخافت البعيد الآتي من أعماقنا ونتبعه دون أن نسأل أين سنصل وماذا سنجني... نتبعه دون سؤال عن العواقب وخوف من الطريق، فهذا الصوت صديق... هو الصديق الصادق الوحيد.
الدين رحلة نمشيها بهُدى وهداية من هذا الصوت، فهو دليلنا وحارسنا ومرشدنا ومعلمنا وهو حقيقتنا ومصيرنا وقدرنا... أنت تخاطر بكل شيء لأجل رحلة التدين ومتى خاف الإنسان على منصبه ومركزه وأبى أن يمشي رحلته على هُدى همس صوته فالتدين لن يطرق بابه، طوال حياته.


اللحن الإلهي -٢٠

كلمة الله
ماذا في الكلمات سوى حروف وخلف الحروف دلالات؟ دلالات تشير للمعاني الحية في القلوب النابضة المفعمة بالحياة. كلمة الله ليست بالله وكلمة حب ليست بالحب وكلمة نار ليست بالنار. لنهجر الفكر ونعطيه راحة، لنهجر غابة مليئة بأشواك الكلمات وحروفها، إلى حديقة تملأها أزهار المعاني.. حديقة يفوح منها عبير العبرة فتُعلن الكلمة غيابها وخسوفها. الكلمات رموز واشارات، إستخِدمها ولا تتعلق بها، أُعبر جسرها ولا تبني بيتًا عليها. بإمكانك نسيان الكلمة إن تذكرت المعنى، فلا تنسى الكلمة وأنت تجهل المعنى فهذه هفوة وغفوة أنت المسؤول عنها. ما حدث أننا استعملنا اللغة بإتقان، أصابنا الهوس باللغة فَنسينا أنها قناع يحجب الحقيقة عن قلب الإنسان...
حدث ذات يوم أن طلب صديق من صديقه أن يأتي له برجل دين يزوره وهو في مرضه على فراش موته ليهدأ قلبه. أتاه الصديق برجل الدين ليجلي عنه الظنون ويفرج عنه الهموم، فتفوه المريض بكلام غير موزون. غضب رجل الدين وهم بمغادرة المكان، فطلب منه الصديق أن يسامح صديقه المريض فهو لم يقصد الإساءة ولكنه في حال معاناة وهوان... أبى الرجل أن يسامح وذهب وغادر المكان... منذ ذلك اليوم شعر الصديق بأن لا رحمة ولا غفران، بأن لا حاجة لرجل دين وقرر أن يبحث وحده عن الله... أمر واحد لم يكن في الحسبان، هو الآن يشعر برفضه لرجل الدين
ورفض لله في ذات الحين فحزن لما أتاه فهذا عكس ما أراده وتمناه...مسؤولية هذا الصديق هي أنه ضل الطريق وحِسب دون أن يدري أن الله عدو وليس صديق مثله مثل رجل الدين الذي زار صديقه المريض. إنها هفوة وغفوة فالرجل هو من رفض مساعدة صديقه ليس الله فالله من كل إنسان قريب...
أن يتحاشى هذا الصديق رجال الدين ليس بالأمر المريب والغريب، في الواقع كلما ابتعد الإنسان عنهم كلما اقترب من الله فيه وبداخله أكثر فلا حاجة لمن يهديك الصراط المستقيم وهو لم يهتِد بعد، سيكون الأمر مجرد كلام وفلسفات ونظريات وعودة لغابات ملأتها الأشواك. رجل الدين يفعل العكس فيحاول رسم صورة مُعتمة وطريقًا مجهولاً إذا قررت أن تسلك درب الله وحدك وحيدًا دون شريك أو رفيق... يرسم صورة معتمة ونهاية مجهولة حتى تشعر بالخوف وثقل الحمولة فتحتاج لمن يرميها عن كتفْيك وترى بعينيه لا بعيْنيك وتسمع بأذنيه لا بأذنْيك. إن رسْم هذه الصورة هو عمله وفيه تجارته وربحه والا... فلا وسيط... وهل من قرابة هي أقرب من حبل الوريد؟ نعم فالله أقرب... إذًا لَم تحتاج لوسيط؟
جميل أن تكون هذه الحكاية بداية يبدأ بها هذا الصديق رحلته دون حاجة لدُعاة الحق والفضيلة، دون حاجة لتعاليمهم وبضاعتهم الماورائية التي يتاجرون بها... لكن الحكاية أصبحت بداية لفقدان الهداية وها هو يقاوم كلمة الله لأنه لا يراها ولا يفهمها بمعزل عن رجل الدين، ومن قال أن رجل الدين فهَمها ورآها وحواها؟ ليس لله دخل بما فعله ذلك الرجل فالله جميل ودود وبينه وبين عباده تتلاشى الحدود ومن عرف هذا الحق بدأ ينساب مع تيار الوجود نحو الأبدية والخلود. ذلك الرجل أدار ظهره وهذا ذنْبُه، وهذا لا يعني أن جميع رجال الدين مثله. لكن الله... الله لم يدر ظهره لأحد منذ بداية الزمان، لم يرد ولم يخذل إنسان...
في الواقع لا بُد وأن الله اقترب من هذا المريض على فراش الموت أكثر، فبرحيل رجل الدين أصبحت المساحة للتواصل مع الله أكبر. فما الحكاية؟